هذا الموضوع مشوّقٌ جداً للبحث و الدراسه
وقع في يدي قبل أسابيع كتابٌ خفيف القراءه
عُنون تحت عنوان "الأسطوره، دراسةٌ حضاريه"
قدم فيه الكاتب دراسةً مستفيضه عن دور الأساطير في الإرث الإنساني القديم.
و كيف أنها بدأت ببث المفاهيم الأخلاقيه
في الإنسان القديم بواسطة الترميز تارة،
و بواسطة الروايه من المصادر تارةً أخرى.
يمكنكم متابعة ما كتبت في هذه التغريدات المتواصله عن الكتاب عبر هذا الرابط.
قرائتي لهذا الكتاب كان سببها سؤالاً يتردد لدي منذ زمن، كيف حدد الانسان القديم معاييره الأخلاقيه دون مساعدة، هل كانت هناك يدٌ ربانيةٌ في الموضوع؟؟
ناقش الكتاب أثر الأساطير في الشرق الأوسط، بما أن هذه المنطقه قد تأثرت بإرثٍ ديني عميق يضرب جذوره في هذه الأرض و يمتد ليشمل بقاعاً عديدةً منها. بعد دور الأساطير في بث ثقافة الحقوق و الأخلاقيات في حياة الانسان القديم لجأ أجدادنا الأوائل إلى تدوين ما تعلموه بالتواتر عن بناء المجتمعات المتحضره و إرساء قوانين حياتها.
من المعروف أن حضارة الآشوريين كانت من أعرق الحضارات التي شكلت ثقافة المنطقة العربيه.
تلك الحضارة المدنيه التي امتدت لبضع آلافٍ من السنين شكلت إرثاً حضارياً اعتمدت عليه الأمم اللاحقةُ بها.
من أبرز اللوائح التي كان لها تأثيرٌ في حياة الانسان و علاقته مع أفراد مجتمعه في تلك الفتره لائحة حمورابي. صحيح أنها كانت تنظيم قد أتى من سلطةٍ سياسيةٍ عليا تمثلت في الملك حمورابي نفسه لكنها أصّلت لمفهوم التقنين في المجتمعات و تسييرها لتعيش حياةً أفضل بمقاييس ذلك الزمان.
قانون حمورابي منقوش على صخره بازلتيه يعود
تاريخها الى عام ١٧٥٤ ق.م - متحف
اللوڤر (پاريس)
نتجه إلى أقصى شرق هذه البسيطه في اليابان لنجد أيضاً لائحة قوانينَ أخرى سميت بـ "لائحة بوشيدو" في منطقة الشرق الأقصى التي كانت تعيش صراعاً دائماً على السلطه و القوه، كان من اللازم أن يكون هناك تنظيمٌ لحياة المقاتلين لئلا يتحولوا إلى مرتزقه.
فأُنشأ مفهوم المقاتل النبيل الذي يتحلى بأخلاق الساموراي و فضيلته. فهو يملك ولاءاً لقادته و شجاعةً ضد أعداءه و نبلاً منقطع النظير حتى مع خصومه.
ما جعل تلك اللائحه بهذه الصورة العسكرية الجامده هي طبيعة معظم طلائع الجمهور في تلك المنطقة تحديداً. فشرفك كان يتصل بنصل سيفك، و قد آمن اليابانيون بهذا حتى وقتٍ قريبٍ جداً.
درع تقليدي لأحد المحاربين اليابانيين من القرون
الوسطى في فترة أوزوشي موموياما
المتحف التاريخي- يوكوهاما (اليابان)
نتجه إلى غرب العالم القديم و حوض البحر المتوسط لنجد أن الشعراء و الرواه و الفلاسفه في العصور القديمه أصّلوا لمفهوم النبل و الشجاعه و الأخلاق في قصائدهم ورواياتهم.
لنأخذ اليونان و الإغريق على سبيل المثال هذه الشعوب كانت تعيش على الفلسفه و التحليل المنطقي للأمور، نجد أفلاطون مثلاً قد أسس للفضيله في مدينته الفاضله و الحب الفاضل الأفلاطوني. رغم أن اللاحقين له عرفوا أن الطبيعة البشريه لا يمكنها أن تؤسس مجتمعاً بلا خطيئه نعم نجحوا في تأسيس حضارة آثينا و طرواده لكنهم لم يستطيعوا أبداً تحقيق أحلام أفلاطون الفاضله.
هذه الحضارات كانت وثنيه لا تقيم وزناً إلا للساده كما هو الحال في معظم البقاع تلك الفتره صحيح أنها أعطت لبعض الطبقات حقوقاً تفوق غيرهم على أساس النسب و الدم لكنهم نجحوا نوعاً ما في إرساء قوانين صارمه ضد قطع الطريق و السرقه بين أفراد المجتمع.
ورث الرومان تلك الحضارات الوثنيه و رغم أنهم عاصروا بداية نهوض المسيحيه و استمرار احتقار الديانة اليهوديه تعايشوا مع هذا الإرث و حورره لخدمة مجتمعهم هندسياً و معمارياً تاره و أخلاقياً تارةً أخرى، و في ظل كتابين سماويين مشهورين في منطقة حوض المتوسط أصبح لدى الانسان مرجعاً أخلاقياً متيناً يدين به و يلتزم به من أراد، لكن الدين لم يرتبط سياسياً بالرومان إلا بعد انهيار الامبراطورية الرومانيه و انقسامها إلى قسمين.
قسطنطين الأول
أول إمبراطور روماني اعترف بالمسيحيه
و دان بها
واجهت البشريه سقطةً مدوّيه في الغرب بعد سقوط الرومان، في ظل العصور المظلمة المتأخره عرف البشر أنه حتى و إن كان لديهم سلطةٌ دينيه تحمي أخلاقهم فمن الممكن أن تستأثر بمصالحها و تضرب بكل المفاهيم النبيله التي أتت بها عرض الحائط.
فقد كانت معارضتك لتأخذ أدنى حقوقك البشريه المنطقيه كافيةً جداً لرميك بتهمة الزندقه و الكفر و تحريض العامه، لتكون العقوبه قاسيه في النهايه.
رسم تخيلي لأحد محاكم التفتيش
الأوروبيه في العصور الوسطى و ما صاحبها
من إباده بشريه
في الوقت نفسه كانت الأوضاع في الشرق العربي مزدهرةٌ جداً نزل القرآن و أسس نبينا صلى الله عليه و سلم حضارةً راقيةً جداً. عرف فيها الانسان للمرة الأولى أن المساواة في الفرص واجبةٌ لاستمرار حياة الفرد، و أنه لا توجد فروقٌ معنويةٌ مفتَعَله تفضّل عرقاً على آخر و لا مجموعةً على أخرى و لا جنساً على جنس، جاء ذلك كله في وثيقة المدينه التي كانت أول معاهدةٍ في التاريخ الاسلامي بين الحاكم و بين شعبه متعدد الأعراق و النِٓحَل
حتى و إن اختلفت الديانات فمازالت حياة الفرد و فرصه في الحياة الرغده مضمونه. انتهى العصر الذهبي لحضارة الاسلام الراقيه عاش البشر من جديد دوامة التفرقه و الاستئثار بفرص الحياه من قبل السلطات السياسيه المنغمسه في الملذات.
إحدى مقولات أبي جعفر المنصور الذي كان
يظن أن لديه تفويضاً إلهياً للتحكم بأرزاق
العباد و معاقبتهم
بعد تذبذب الحضارة الاسلاميه بدأ البشر يتطلعون إلى التنوير القادم إليهم من الغرب تلك الفتره التي شهدت تفعيلاً للمفاهيم العلميه و الانسانية النبيله على أرض الواقع. رغم أن بعضها أُصِّل له من قِبَل علماءٍ مسلمين إلا أنها لم تُطبَّق و يُستَفاد منها فعلاً إلا فيما بعد.
ففلسفة ابن رشدٍ مثلاً و دراساته الاجتماعيه وجدت طريقها إلى المحرقه قبل اعطاء الناس فرصةً لدراستها و رُميَ صاحبنا الأخير في النهايه بالزندقه. و كذلك الحال لابن خلدون و ابن حيان الذي واجهوا المتاعب من قِبَل بعض معاصريهم من الفقهاء.
تلقف دارسي الغرب في الأندلس هذه الأعمال و نشروها ثم وضعوا بصماتهم في فلسفة الأخلاقيات و حاولوا تطبيق هذه الإضافات على أرض الواقع ببعض المبالغه أحياناً. ففي القرن السابع عشر مثلاً وُضِعت بعض القوانين التي تنظم حتى آداب الحرب فضابط الصف لا يُقتَل و الأسرى أيضاً لا يُقتَلون أيضاً.
أثناء ثورة فرنسا كان للمرأه دورٌ هامٌ جداً عرفته و استوعبته السلطه لكن هذا الدور لم يُستغَل الا بعد أن هدأت الامور و وصلت الثوره إلى مستويات النضج.
اجتياح الفرنسيات لقصر فرساي إبان
الثورة الفرنسيه إثر الجوع و كان عددهن يقارب
٦٠٠٠ امرأه
جائت بعد ذلك في السنوات اللاحقه لحربين عالميتين العديد من التشريعات التي تضمن الحقوق و الحريات لأي فردٍ كان أياً كان جنسه.
صحيح انها اصطدمت في مرحلةٍ ما بأفكارٍ معلَّبه في شتى بقاع الأرض لكنها في النهايه خرجت الى النور على شكل معاهداتٍ و اتفاقات وقعت عليها الدول و تراقب تنفيذها بعض الجهات.
لا أقول أننا نعيش في عصرٍ ذهبي لسن الأخلاق و الحقوق لكن أصبحت حياة الانسان الأول القائمة على النهب و السرقه و الاضطهاد حياةً أكثر تحضراً في بعض البقاع و لا ننكر وجود تلك الطبيعه في بقاعٍ أخرى، بل إن تصرفات الانسان البربريه قد تكون مدعومةً من الحكومات و الكيانات في بعض البقاع.
أعتقد أن البشر يتصرفون بشكلٍ متشابه بغض النظر عن إرثهم الديني أو ما يؤمنون به. هم جنسٌ ذكي قابلٌ للتعلم، يقوم تعلمهم على الإرث و التناقل من الأمم السابقه لكن اذا ارتبط هذا النقل بالوعي و بالعقل الخالي من القيود أسس حضارةً عريقه.
في معرض نقاشنا هذا قد تكون هذه الحضاره أخلاقيه و قد تكون في أي جانبٍ آخر.
لكن أسوأ مافي الأمر، هو طغيان تلك القيود و تسببها بتزمّتٍ شديد تجاه المنقول و الموروث فتتمسك به عقول الناس حتى و إن كان هذا الموروث يغص بالمخالفات المنطقيه أو لا يناسب الزمان الذي يعاصرونه.
الإنسان قد يُفتَن بفكرةٍ قديمه نُقِلت إليه، قد تكون مرفوضةً تماماً في وقتٍ مضى لكنه قد يرى فيها مالا يرى غيره. فيسعى إلى تطبيقها و قد يحولها إذا امتلك السلطه إلى قوانين قد تتسبب فيما بعد في تقييده فإن تغيرت الأوضاع يسعى هرباً بسلامته لأن يطوِّع التغيرات لصالحه إما بالقوه أو بالحيله.
قد ينجح أحياناً لكن ليس دائماً، فالحياةُ كما قال أوشو: "نهرٌ جارٍ" لا تستمر على حال فدوام الحال من المحال.