الخميس، 25 يونيو 2015

أريكتي......كرامتي.


مرحباً، 
من المؤكد أنك تعرفني جيداً فأنا مواطنٌ مثلك تماماً. لذلك أنصحك أن تسترخي على أريكتك و أنت تقرأ أسطري هذه. 

بدايةً أريد أن أسألك سؤالاً، هل تسكن بالإيجار أم أنك تتملك منزلك ؟! 

إذا كنت من أصحاب الخيار الثاني فاعلم يا عزيزي أنك في نعمه حسب كلام أبناء جيل الطفره. فقد أسرّ إليّ والدي سراً و قال لي ذات يوم: "اسمع يا ولدي ما دام عندك بيت ملكك انت ملكت الدنيا". 


أما إذا كنت من أصحاب الخيار الثاني فأنت تقع ضمن ٨٠٪ ممن لا يملكون منازلهم في هذا البلد الواسع.

 كنت في نقاشٍ قبل فتره مع صديقٍ جزائري حدثني عن واقع مشاريع الإسكان لديهم. 
ففي بلدٍ ينتج  خُمس ما ننتجه من النفط مع عدد سكانٍ يفوق عددنا بـ ٣٥٪ تقريباً، يشترك المواطن في برامج عدةٍ للإسكان. منها برنامجٌ يمتلك بموجبه المواطن أرضاً مساحتها تعتمد على عدد أفراد أسرته، قد تكون صغيرةً أحياناً و لكن مقابل هذه المساحه يستحق قرضاً لبنائها يتم تقديره حسب تكاليف بناء هذه الأرض. 

يا صديقي المواطن نحن في بلدٍ تدور أحلامنا فيه حول لقمة "العيش" فما يهمنا أن نجد وظيفةً تمكننا من إيجاد لقمة "العيش"، و نحاول أن نجد شريكةً تحبنا وتهتم بنا وتطعمنا لقمة "العيش" ، ونشقى طوال أعمارنا لإيجاد سقفٍ يأوينا نستطيع أن نأكل لقمة "العيش" تحته مع أبنائنا بأمان. 

معظمنا يا صديقي يصيبه الإرهاق بعد تحقيق حلمه الأول و الثاني، و يبقى حلمه الثالث محبوساً في أدراج أمنياته، التي قد يموت قبل تحقيقها. نحن يا صديقي نعيش في بلدٍ قد نموت قبل أن نحصل على أبجديةٍ طبيعيه من أبجديات الحياه. 

حسناً فلنلق نظرةً على هذه الأرقام سوياً: 
متوسط تكاليف بناء المنزل تساوي متوسط مدخول الفرد الإمريكي لمدةِ ثلاث سنوات، و تساوي متوسط ما يجنيه الفرد الصيني خلال أربع سنوات و هو ما يساوي تقريباً متوسط ما يجنيه الفرد السعودي لمدة ١٠ سنواتٍ تقريباً.  

عزى كثير من الخبراء هذه المشكله إلى الأسباب التاليه:
 
١- ٦٠ ٪ من أفراد الشعب هم من فئة الشباب مثلك يحلمون ببناء بيتٍ يملكونه، و هذا أدى إلى إيجاد وهمٍ يسمى "زيادة الإقبال على العقار"، الأمر الذي ساعد تجار العقار و تجار مواد البناء في تبرير ارتفاع الأسعار.

٢- المضاربات العقاريه: لدينا يا صديقي مساحاتٌ شاسعه من الأراضي هي ملكٌ لكبار المستثمرين الذين يضعونها رهناً لمغامراتهم في المضاربة بها. "فالأسعار عاليه كما قلنا" 

٣- الإحتكار: لدينا نسبةٌ كبيرةٌ من الأراضي البيضاء يمتلكها بعض الشخصيات النافذه "تشبيكاً"، و هم لا يرغبون بالبيع أو التصرف فيها، ولا يرغبون أيضاً بدفع ضرائب عليها.

بالتأكيد أنك ستصرخ الآن قائلاً : 
"يا محمد كل عيش" 

٤- التلاعب بالأسعار: كيف يتم ذلك؟! حسناً سأجيبك ......... يقوم بعض التجار بشراء مساحاتٍ شاسعه بثمنٍ بسيطٍ جداً، لا يتجاوز أحياناً ٢٠ ريالاً للمتر المربع الواحد، بينما يبيعها على الناس بأثمانٍ مرتفعه قد تصل إلى ٣٠٠ ريالاً للمتر المربع الواحد. 
تبرير التجار الوحيد لهذا التلاعب: "ياخوي جبنالكم ماي و كهرب وش تبون بعد"
الأمر الذي قد لا نجده في الواقع، و إذا وجد يكون ضمن فئة "أبو كلب" أو فئة
 "شغل مشي حالك"

لفت نظري قبل فتره إعلانٌ يقول: "تملك الآن شقتك في مانشستر بأسعارٍ تبدأ من ١٢٨٠٠٠ پاوند" وهو ما يساوي : ٨٠٠٠٠٠ ريالٍ سعودي تقريباً . لم أعرف أبداً أن حياً راقياً لدينا توجد فيه شقةٌ بنفس السعر يملك مقومات المعيشه في مانشستر كمتحفٍ للعلوم أو داراً للأوپرا على سبيل المثال. 

أنصحك الآن أن تسترخي على أريكتك و تستمع إلى رائعة أبو نوره : يا غالي الأثمان، أعتقد أنها تحاكي حالتك الآن.

يلا نسمع !!!!! 


و في حالة رغبتك في التأكد من عرض شقق مانشستر الذي أسلفته قبل قليل أنظر إلى هذا الرابط.




السبت، 20 يونيو 2015

التأثير و الزخم..............


تخيل أنك تمتلك مصنعاً للحليب و تعاونت مع شركةٍ معينه توفر لك الإعلان على لوحاتها، فجأه قيل أن الإعلان في هذه الشركه تترتب عليه مفسدةً عظيمه.

و ذلك لأن جزءاً من الشركات و المصانع التي تعلن على لوحاتها تستخدم صوراً للنساء قد لا تكون مقبوله عند فئةٍ معينه من زبائنك. فلنفترض أنك اتخذت قراراً بالتوقف عن الإعلان لدى تلك الشركه.

تبين بعد ذلك أن شركة الإعلانات تلك رعت مشروعاً اجتماعياً نافعاً أصبح حديث المجالس. ناقشت فيه قضيةً حساسه أثارت المجتمع و ساعدت نوعاً ما على تصحيح مفاهيم كانت غائبه عن شريحةٍ 
كبيرةٍ منه.

تسبب ذلك المشروع في اكتساب شهرةٍ واسعه لتلك الشركه، و معدلات مشاهدةٍ كبيره لإعلاناتها.
فلنقل أنك لم تعاني كثيراً من ناحية مبيعاتك 
و نتائجها لكنك اكتشفت بعد نهاية موسمٍ ما أن مبيعاتك انخفضت عما كانت عليه. 

و ذلك لأن مصنعاً منافساً سبقك في الوصول الى شريحةٍ كبيره من المستخدمين جراء انفجار الشهره الذي شهدته إعلاناتهم في تلك الشركه. تخيل أنك تملك نفس المنتَج و قد سبقت منافسك في الحصول عليه لكن إعلاناتك مع شركةٍ بديله لم تسعفك في الوصول إلى شرائح أعرض من المستخدمين. 

الزخم الإعلامي قد يكون عاملاً مساعداً في تسويق منتَجٍ ما، بالتأكيد أن تأثير بعض الفئات على غيرها كبيرٌ جداً لكن ما فائدةُ هذا التأثير إن لم يصاحبه زخمٌ في نقله و التأثر به ؟! ما فائدة ذلك التأثير إذا كان ظاهرياً فقط بشكلٍ لا واعي؟! 
ما فائدة ذلك التأثير إن كان فقط لتصفية حساباتٍ متهوره ؟!

تخيل انك اكتشفت فيما بعد أنك بقرارك هذا أرضيت ١٠ مليون من عملائك القدامى على حساب ضعف ذلك الرقم من العملاء الجدد المحتملين، أحياناً إبهارك لعميلٍ جديد يصنع منه لوحةُ إعلاناتٍ بشريه للتسويق لمنتجك.

لا أقول أن قرارك كان خاطئاً فبالتأكيد قد اتخذته بعد دراسه، لكن ألم يكن جديراً بك توظيف ذلك الزخم لخدمتك، بدلاً من أن ترضي نسبةً قد تكون مؤثرةً تأثيراً ظاهرياً فقط ؟! ألم يكن بمقدورك أن تزيح تلك النظرة السيئه عن واجهة إعلاناتك بخدمتك و رعايتك المتقدمه لزبائنك الجدد؟! 

أعتقد أن أي إدارةٍ ما تسعى لأن يكون الوضع أحسن مما يجب، وذلك لأننا نعي جيداً أن الوصول الى قمةِ شيءٍ ما ليس صعباً لكن المحافظةُ عليها صعبٌ جداً................

الجمعة، 19 يونيو 2015

السخريه،،،،ردة فعل.

تُوجد تعريفات كثيره للسخريه منها، استعمال الساخر ألفاظاً تقلب المعنى الى عكس ما يقصده المتكلم حقيقةً أو تصوير الشخص المستهدَف تصويراً مضحكاً  إما بوضعه في صورةٍ مشوَّهه لا تصل إلى حد الإيلام أو تكبير العيوب الجسديه او تصرفاته نحو المجتمع بصوره غير مباشره. 

القصد منها الانتقاد أولاً و الإضحاك ثانياً، أما اذا كانت بطريقةٍ عدوانيه تستهدف شخصاً بعينه فهي تسمى تهكماً. 

آلفرد أدلر عرفها بأنها انفعال مركب نتيجةً للاشمئزاز و الغضب فاذا اشمئزينا من شيءٍ ما 
تعدى على حياتنا نلجأ الى السخريه بغرض الترويح و إشباع زهونا البشري.

و هناك فرق بين السخريه و الفكاهه، فكل ما يُضحك بلا هدف هو فكاهه أما ما يُضحك بغية الوصول الى هدف ما أو لإظهار فكرةٍ ما هو سخريه. عادةً الوصول إلى هذا الهدف قد يكون بشكلٍ غير مباشر. 

أما أساليبها فتتعدد، بدءاً من المحاكاه الحركيه 
و الصوتيه و هي أقدم الأساليب مروراً بتحقير العظمه أو تفخيم التوافه، و انتهاءاً بالتلاعب اللفظي و تحوير معاني الألفاظ. 

و أرقى أنواعها ما كان ينتقد فكرةً ما دون التعرض للأشخاص و هذا النوع راقٍ جداً، لأنه يساهم في إظهار فكرةٍ معينه و السخريةُ منها و انتقادها بغرض تصحيح المفاهيم أو التنبيه بما يترتب عليها فيما بعد. 

مجتمعنا اعتاد التعريض المباشر للأشخاص و هذا طرح أمام المفكرين تحدياً كبيراً في تسخير نكاتهم للسخرية من الأفكار دون شخصنه. و ذلك لأن المتلقي في العاده سيربط بين ما يرى و بين "الشخصيات" لا بين ما يرى و بين 
"الأفكار التي تطرحها تلك الشخصيات"

و السخرية من أفكار شخصٍ ما لا تعني أبداً التقليل من احترامه، فبطبيعة الحال قد تعترض عقولنا كل يوم الكثير من الأفكار التي ترسخ فيها، قد تكون هذه الأفكار ساذجةً بالنسبة للآخرين.
و قد تُواجَه ببعض السخرية اللاذعه. 

و بالتأكيد لأننا ناضجون و سخريتنا هذه كانت بغرض طرح الرأي و الرأي المخالف فلن تفسد سخريتنا للود المعتاد بين البشر أي قضيه. 


لكن قد تتجاوز سذاجة شخصٌ ما كل الحدود و ذلك قد يظهر في تعامله و ردةُ فعله تجاه السخرية التي يتعرض لها. و هذا قد يسهم في خلق خطوط عريضه في التعامل مع هؤلاء، قد يرى بعضهم الاستفزاز طريقةً مثلى ليفقد الضحيه توازنه و قد يرى بعضهم رصاصة الرحمه في منع المستهدف من إظهار المزيد من السذاجه عن طريق تجاهل ردود أفعاله.

معاناة المفكرين في مجتمعاتنا العربيه أن الأفكار تعرضت للتشخيص، أي أن شخصاً ما بعينه أصبح رمزاً لفكرةٍ معينه. و هذا ليس عيباً العيب الأكبر هو فرض نوعاً من التقديس لهؤلاء الأشخاص يحصنهم ضد النقد و السخريه.
 
و أحياناً تُحاط الأفكار بقداسةٍ لا تستحقها تجعل لها حصانةً ضد النقد و البحث و الدراسه و بطبيعة الحال السخريه إذا ثبتت سذاجتها فيما بعد. 
فالعادات و التقاليد مثلاً أو الاجتهادات الفقهيه التي قد تكون محل نظرٍ و تدقيق يُنسى أنها من نتاج عقليةٍ بشريه لكنها تُحاط بهالةٍ من القدسيه تجعل نقدها عيباً و معصيه.

يكفي أن تظهر في مشهدٍ ما بمظهرٍ معين لترمى بالزندقه أو أن تقول بصوتٍ مضحك و لهجةٍ معينه 
"البنت لولد عمها" لتُرمى بالانتقاص من احترام مجتمعٍ بأكمله. 

و هنا أقول أن مهمة الانسان الساخر لا تنتهي بقرع جذور العقول المؤمنة بفكرةٍ ما عن طريق إبداعه في السخرية منها فحسب. 
بل يتواصل دوره فيما بعد في التعامل مع ما قد يُطرَح ضده "شخصياً" في بعض الحالات. و لذلك فالتعقل مع ردود الفعل مطلوب و يزيد من فعالية أسلوب السخريه المُتبَع.

أتمنى يوماً ما أن يتفهم الناس أن السخريه ماهي إلا ردةُ فعلٍ ينبغي أن يُستفاد منها، و يُسعَد بها إن كانت بغرض الإضحاك أو يُحتَرَم أصحابها على الأقل................

الاثنين، 15 يونيو 2015

الأخلاق و الحقوق الإنسانيه عبر التاريخ.

هذا الموضوع مشوّقٌ جداً للبحث و الدراسه
وقع في يدي قبل أسابيع كتابٌ خفيف القراءه
عُنون تحت عنوان "الأسطوره، دراسةٌ حضاريه"
قدم فيه الكاتب دراسةً مستفيضه عن دور الأساطير في الإرث الإنساني القديم.
و كيف أنها بدأت ببث المفاهيم الأخلاقيه
في الإنسان القديم بواسطة الترميز تارة،
و بواسطة الروايه من المصادر تارةً أخرى.
يمكنكم متابعة ما كتبت في هذه التغريدات المتواصله عن الكتاب عبر هذا الرابط. 


قرائتي لهذا الكتاب كان سببها سؤالاً يتردد لدي منذ زمن، كيف حدد الانسان القديم معاييره الأخلاقيه دون مساعدة، هل كانت هناك يدٌ ربانيةٌ في الموضوع؟؟ 

ناقش الكتاب أثر الأساطير في الشرق الأوسط، بما أن هذه المنطقه قد تأثرت بإرثٍ ديني عميق يضرب جذوره في هذه الأرض و يمتد ليشمل بقاعاً عديدةً منها. بعد دور الأساطير في بث ثقافة الحقوق و الأخلاقيات في حياة الانسان القديم لجأ أجدادنا الأوائل إلى تدوين ما تعلموه بالتواتر عن بناء المجتمعات المتحضره و إرساء قوانين حياتها.

من المعروف أن حضارة الآشوريين كانت من أعرق الحضارات التي شكلت ثقافة المنطقة العربيه. 
تلك الحضارة المدنيه التي امتدت لبضع آلافٍ من السنين شكلت إرثاً حضارياً اعتمدت عليه الأمم اللاحقةُ بها. 

من أبرز اللوائح التي كان لها تأثيرٌ في حياة الانسان و علاقته مع أفراد مجتمعه في تلك الفتره لائحة حمورابي. صحيح أنها كانت تنظيم قد أتى من سلطةٍ سياسيةٍ عليا تمثلت في الملك حمورابي نفسه لكنها أصّلت لمفهوم التقنين في المجتمعات و تسييرها لتعيش حياةً أفضل بمقاييس ذلك الزمان.


     قانون حمورابي منقوش على صخره بازلتيه يعود
          تاريخها الى عام ١٧٥٤ ق.م  - متحف
                           اللوڤر (پاريس) 

نتجه إلى أقصى شرق هذه البسيطه في اليابان لنجد أيضاً لائحة قوانينَ أخرى سميت بـ "لائحة بوشيدو" في منطقة الشرق الأقصى التي كانت تعيش صراعاً دائماً على السلطه و القوه، كان من اللازم أن يكون هناك تنظيمٌ لحياة المقاتلين لئلا يتحولوا إلى مرتزقه. 

فأُنشأ مفهوم المقاتل النبيل الذي يتحلى بأخلاق الساموراي و فضيلته. فهو يملك ولاءاً لقادته و شجاعةً ضد أعداءه و نبلاً منقطع النظير حتى مع خصومه. 
ما جعل تلك اللائحه بهذه الصورة العسكرية الجامده هي طبيعة معظم طلائع الجمهور في تلك المنطقة تحديداً. فشرفك كان يتصل بنصل سيفك، و قد آمن اليابانيون بهذا حتى وقتٍ قريبٍ جداً. 



    درع تقليدي لأحد المحاربين اليابانيين من القرون 
          الوسطى في فترة أوزوشي موموياما
          المتحف التاريخي- يوكوهاما (اليابان) 

نتجه إلى غرب العالم القديم و حوض البحر المتوسط لنجد أن الشعراء و الرواه و الفلاسفه في العصور القديمه أصّلوا لمفهوم النبل و الشجاعه و الأخلاق في قصائدهم ورواياتهم.

لنأخذ اليونان و الإغريق على سبيل المثال هذه الشعوب كانت تعيش على الفلسفه و التحليل المنطقي للأمور، نجد أفلاطون مثلاً قد أسس للفضيله في مدينته الفاضله و الحب الفاضل الأفلاطوني. رغم أن اللاحقين له عرفوا أن الطبيعة البشريه لا يمكنها أن تؤسس مجتمعاً بلا خطيئه نعم نجحوا في تأسيس حضارة آثينا و طرواده لكنهم لم يستطيعوا أبداً تحقيق أحلام أفلاطون الفاضله. 

هذه الحضارات كانت وثنيه لا تقيم وزناً إلا للساده كما هو الحال في معظم البقاع تلك الفتره صحيح أنها أعطت لبعض الطبقات حقوقاً تفوق غيرهم على أساس النسب و الدم لكنهم نجحوا نوعاً ما في إرساء قوانين صارمه ضد قطع الطريق و السرقه بين أفراد المجتمع.

ورث الرومان تلك الحضارات الوثنيه و رغم أنهم عاصروا بداية نهوض المسيحيه و استمرار احتقار الديانة اليهوديه تعايشوا مع هذا الإرث و حورره لخدمة مجتمعهم هندسياً و معمارياً تاره و أخلاقياً تارةً أخرى، و في ظل كتابين سماويين مشهورين في منطقة حوض المتوسط أصبح لدى الانسان مرجعاً أخلاقياً متيناً يدين به و يلتزم به من أراد، لكن الدين لم يرتبط سياسياً بالرومان إلا بعد انهيار الامبراطورية الرومانيه و انقسامها إلى قسمين. 


         
                      قسطنطين الأول
         أول إمبراطور روماني اعترف بالمسيحيه
                          و دان بها 

واجهت البشريه سقطةً مدوّيه في الغرب بعد سقوط الرومان، في ظل العصور المظلمة المتأخره عرف البشر أنه حتى و إن كان لديهم سلطةٌ دينيه تحمي أخلاقهم فمن الممكن أن تستأثر بمصالحها و تضرب بكل المفاهيم النبيله التي أتت بها عرض الحائط. 
فقد كانت معارضتك لتأخذ أدنى حقوقك البشريه المنطقيه كافيةً جداً لرميك بتهمة الزندقه و الكفر و تحريض العامه، لتكون العقوبه قاسيه في النهايه.

                 
            رسم تخيلي لأحد محاكم التفتيش 
     الأوروبيه في العصور الوسطى و ما صاحبها
                        من إباده بشريه

في الوقت نفسه كانت الأوضاع في الشرق العربي مزدهرةٌ جداً نزل القرآن و أسس نبينا صلى الله عليه و سلم حضارةً راقيةً جداً. عرف فيها الانسان للمرة الأولى أن المساواة في الفرص واجبةٌ لاستمرار حياة الفرد، و أنه لا توجد فروقٌ معنويةٌ مفتَعَله تفضّل عرقاً على آخر و لا مجموعةً على أخرى و لا جنساً على جنس، جاء ذلك كله في وثيقة المدينه التي كانت أول معاهدةٍ في التاريخ الاسلامي بين الحاكم و بين شعبه متعدد الأعراق و النِٓحَل

 حتى و إن اختلفت الديانات فمازالت حياة الفرد و فرصه في الحياة الرغده مضمونه. انتهى العصر الذهبي لحضارة الاسلام الراقيه عاش البشر من جديد دوامة التفرقه و الاستئثار بفرص الحياه من قبل السلطات السياسيه المنغمسه في الملذات.


      إحدى مقولات أبي جعفر المنصور الذي كان
        يظن أن لديه تفويضاً إلهياً للتحكم بأرزاق 
                    العباد و معاقبتهم

بعد تذبذب الحضارة الاسلاميه بدأ البشر يتطلعون إلى التنوير القادم إليهم من الغرب تلك الفتره التي شهدت تفعيلاً للمفاهيم العلميه و الانسانية النبيله على أرض الواقع. رغم أن بعضها أُصِّل له من قِبَل علماءٍ مسلمين إلا أنها لم تُطبَّق و يُستَفاد منها فعلاً إلا فيما بعد.

ففلسفة ابن رشدٍ مثلاً و دراساته الاجتماعيه وجدت طريقها إلى المحرقه قبل اعطاء الناس فرصةً لدراستها و رُميَ صاحبنا الأخير في النهايه بالزندقه. و كذلك الحال لابن خلدون و ابن حيان الذي واجهوا المتاعب من قِبَل بعض معاصريهم من الفقهاء.

تلقف دارسي الغرب في الأندلس هذه الأعمال و نشروها ثم وضعوا بصماتهم في فلسفة الأخلاقيات و حاولوا تطبيق هذه الإضافات على أرض الواقع ببعض المبالغه أحياناً. ففي القرن السابع عشر مثلاً وُضِعت بعض القوانين التي تنظم حتى آداب الحرب فضابط الصف لا يُقتَل و الأسرى أيضاً لا يُقتَلون أيضاً.
أثناء ثورة فرنسا كان للمرأه دورٌ هامٌ جداً عرفته و استوعبته السلطه لكن هذا الدور لم يُستغَل الا بعد أن هدأت الامور و وصلت الثوره إلى مستويات النضج. 

         اجتياح الفرنسيات لقصر فرساي إبان
    الثورة الفرنسيه إثر الجوع و كان عددهن يقارب
                       ٦٠٠٠ امرأه

جائت بعد ذلك في السنوات اللاحقه لحربين عالميتين العديد من التشريعات التي تضمن الحقوق و الحريات لأي فردٍ كان أياً كان جنسه.

صحيح انها اصطدمت في مرحلةٍ ما بأفكارٍ معلَّبه في شتى بقاع الأرض لكنها في النهايه خرجت الى النور على شكل معاهداتٍ و اتفاقات وقعت عليها الدول و تراقب تنفيذها بعض الجهات.

لا أقول أننا نعيش في عصرٍ ذهبي لسن الأخلاق و الحقوق لكن أصبحت حياة الانسان الأول القائمة على النهب و السرقه و الاضطهاد حياةً أكثر تحضراً في بعض البقاع و لا ننكر وجود تلك الطبيعه في بقاعٍ أخرى، بل إن تصرفات الانسان البربريه قد تكون مدعومةً من الحكومات و الكيانات في بعض البقاع.  

أعتقد أن البشر يتصرفون بشكلٍ متشابه بغض النظر عن إرثهم الديني أو ما يؤمنون به. هم جنسٌ ذكي قابلٌ للتعلم، يقوم تعلمهم على الإرث و التناقل من الأمم السابقه لكن اذا ارتبط هذا النقل بالوعي و بالعقل الخالي من القيود أسس حضارةً عريقه.
في معرض نقاشنا هذا قد تكون هذه الحضاره أخلاقيه و قد تكون في أي جانبٍ آخر. 

لكن أسوأ مافي الأمر، هو طغيان تلك القيود و تسببها بتزمّتٍ شديد تجاه المنقول و الموروث فتتمسك به عقول الناس حتى و إن كان هذا الموروث يغص بالمخالفات المنطقيه أو لا يناسب الزمان الذي يعاصرونه. 

الإنسان قد يُفتَن بفكرةٍ قديمه نُقِلت إليه، قد تكون مرفوضةً تماماً في وقتٍ مضى لكنه قد يرى فيها مالا يرى غيره. فيسعى إلى تطبيقها و قد يحولها إذا امتلك السلطه إلى قوانين قد تتسبب فيما بعد في تقييده فإن تغيرت الأوضاع يسعى هرباً بسلامته لأن يطوِّع التغيرات لصالحه إما بالقوه أو بالحيله. 

قد ينجح أحياناً لكن ليس دائماً، فالحياةُ كما قال أوشو: "نهرٌ جارٍ" لا تستمر على حال فدوام الحال من المحال.  

الجمعة، 12 يونيو 2015

النفط و شاي عم عبدُه ٢

جميلٌ أن تكون قد استفدت كثيراً من حديثنا السابق، أعتقد أنه قد بقي لديك بعض التساؤلات أو أنني قد فتحت أعينك عليها.

ذكرت في حديثنا السابق أن هذا السائل الغريب قد يكون مسيلاً للدماء أحياناً، قد يساعد دولاً في الوصول إلى أقصى مراحل الارتقاء و قد يدنو بأمم أخرى إلى أدنى مراحل الانحطاط. 

لعلك الآن تتسائل، هل يملك برميلاً حديدياً سعته ١٥٩ ليتراً هذه القوه ؟! إجابتي ستكون بالطبع. 

باديء ذي بدء فلنعرف ما يحويه هذا الوعاء، لا أريد أن أعيد ما درسته في المدرسة الثانويه و ما تردد عليك أنه من بقايا حيواناتٍ ميته انضغطت.........الخ الخ الخ. 

لكن لنبدأ من مواصفاته بعد استخراجه، هذا السائل قد لا يكون شديد السواد بالضروره 
كما اعتدنا أن نرى في الصورة النمطية له. 
قد يكون سائلاً ثقيلاً بنياً على سبيل المثال في هذه الصور المرفَقه سترى أنواعاً منه. 


مصدر التنوّع هنا يعتمد على المواد المحتوي عليها فهي ما يحدد قيمته و فاعلية تكريره و كلفة انتاجه و معالجته أحياناً، كوزنه النوعي و نسبة الكبريت فيه. هذه العوامل قد تحدد أسعاره على سبيل المثال: كلما زادت نسبة الكبريت فيه كلما ازدادت معها تكاليف معالجته لاحقاً و بالتالي تفضل بعض الدول الأنواع ذو المحتوى الكبريتي المنخفض.

في العاده برميل النفط الواحد قد يُنتَج منه التالي: 

٦٨.٨٥  ليتر چازولين أو ما يُسمى تجاوزاً "بنزين"

٣٧.٣٧ ليتر ديزل

١٤.٦٢٨ ليتر وقود محركات توربينيه "نستخدمه في الطيارات عادةً"
 
٧.٧٩١ ليتر فحم كوك "يُستخدَم في صناعة الصلب" 

٦.٠٤٢ ليتر "وقود ثقيل" "يُستَخدَم في توليد الكهربا و تحلية المياه"
 
٤.٩٢٩ ليتر أسفلت

٣.٨١٦ ليتر مواد بتروكيميائيه
 
٣.٤٩٨ ليتر نواتج كيميائيه أخرى

١١.٦٠٧ ليتر غاز مُسال "يُستَخدم في التدفئه".



بعد كل هذه الأرقام أعتقد أنك بت تعرف الآن ما يمثله محتوى هذا البرميل الحديدي في حياة الشعوب اليوميه. إذاً فمن المفترض لهذا السائل أن يكون عاملاً مساعداً لتقدم حضارة البشر لا هادماً لها. هذا صحيح، لكن المشكله تكمن أن هذا السائل يوجد في أراضي الدول ذات السياده على أراضيها و أحياناً تندلع النزاعات إذا كان في مناطق حدوديه. هذا إلى جانب أن إنتاج هذا السائل يخضع بشكلٍ كامل أحياناً للقرار السياسي المُتخَذ من الدول المنتجه. 

لا ننسى أيضاً أن سباقات التسلح قد تكون مدعومةً بأرباح بيع هذا المورِد بالنسبة للمنتجين و مرهونةً بمقدار ما يُضَخ للدول المستهلكه المصنعة للسلاح من جهةٍ أخرى. و لأنه مرتبطٌ باقتصاديات بعض الدول ارتباطاً وثيقاً كدول الخليج مثلاً فهو يعطيها أهميةً استراتيجيه و قد ساعدها و مازال يساعدها في سباق التسلح المحموم الذي تشهده منطقتها. 
 
لنستعرض بعض الأحداث التي حصلت في السنوات الأخيره و التي طالعنا تقاريرها الاخباريه.

١- حرب الخليج: 
جميعنا يعرف حرب الخليج و التي كانت أسبابها نفطيةً و اقتصاديه في البدايه و ما نتج عنها في النهايه، من تعاقب للشركات الأجنبيه على حيازة الحق في التنقيب و الانتاج، و أدى ذلك إلى سوءٍ في الإدارة النفطيه التي كانت متجهةً نحو الاستفاده الوقتيه عوضاً عن مراعاة مبدأ الاستدامه. أدى ذلك في النهايه إلى تدهور صناعة العراق النفطيه في العقد الماضي.

٢- أزمة جنوب السودان و شماله:
بعد التقسيم و الحرب الأهليه و هدر الدماء في سبيل الاستيلاء على حقول البترول في جنوب السودان، كان الشمال متحكماً في الانتاج حيث أن أنابيب التصدير في الأراضي الشماليه. و جراء رفض الجنوبيين و الشماليين على تقسيم حصصهم من الانتاج البترولي توقف الجنوبيون عن ضخ البترول من أراضيهم و وقف الانتاج أحياناً، الوضع مازال متفجراً و دموياً إلى الآن.

٣- نزاع جزر فوكلاند: 
عام ١٩٨٢ نشبت حربٌ قصيرة الأمد بين الأرجنتين و بريطانيا للسيطره على جزر فالكلاند كان السبب سياسياً بحتاً "مجرد محاولةٍ لفرض السياده على هذه الجزر". وصل الطرفان إلى هدنه و توقف كل شيء. لكن الإعلان عن اكتشاف حقولٍ واعده في هذه المنطقه أدى إلى عودة التوتر السياسي بين الطرفين. و إن كان الوضع هادئاً حالياً فلا بد أن لا نغفل عن أن التوتر ما زال موجوداً.

إذاً فلأن النفط له ارتباطٌ بالمال و القوه و الأهميه فقد يتصرف البشر من منطلق مبدأهم القديم:
"أنا و من بعدي و الطوفان" فسباق المصالح قد يخرج عن مستوى التنظير و الخطابات و الصفقات ليتجه إلى الأرض دون تعقل. 

أظن أنك بعد كل هذه الأحداث قد أصابك الصداع، سأنادي عم عبدُه ليسعفنا ببعض الشاي لعله يُذهب ما نتج عن هذا الصداع السياسي. 

المراجع: 
1) 6 Global conflicts that have flared up over oil and gas - Michael T. Klare 

2) هكذا انتقلت حرب البترول من اليابسه إلى البحار
صحيفة المساء المغربيه


النفط و شاي عم عبدُه



حسناً لن أتحدث إليك يا صديقي القاريء كحائزي درجة الدكتوراه في الاقتصاد و لن أحدثك يا صديقي من واقعٍ تقني، اعتبر هذا المقال حديثاً عفوياً بين صديقين في مقهىً شعبي، تعلو فيه النداءات على عامل المقهى "عبدُه"  ليأتي لزبائنه بأكواب الشاي و جمر الشيشه.

ربما يسعفنا الحظ بأن نشاهد تقريراً اقتصادياً عن أسعار النفط ذلك الذهب الأسود الذي تتنازع عليه الدول. لكن أهو بهذه الأهميه ليصبح حديث السياسيين ؟! أهو بتلك الأهميه التي تجعله مسيلاً للدماء أحياناً؟! 

بالتأكيد لن تهتم بذلك التقرير و لن تهتم بسعر مزيج برنت و لن تهمك قرارات منظمة أوپك فعندما تسمع هذه المصطلحات ستردد: و ما دخلي أنا و ما يصلون له من قرارات؟! ما دخلي أنا ان ارتفعت أسعاره أو هبطت ؟! هل لذلك تأثيرٌ في حياتي ؟! 

قبل أن أجيبك على كل هذا، أرجو أن تسترخي و ترتشف كوب الشاي أمامك، فكر معي بعد ذلك قليلاً.........هل تُعتَبَر دولتنا مصدِّرةً للشاي ؟! 
بالتأكيد لا
حسناً قد يأتينا من الهند أو من شرق آسيا.
جميل.......تخيل أنك تملك مزرعةً للشاي و مساحتها كبيرةٌ جداً، ستحتاج إلى بعض الآليات لأعمال الحراثه فلنقل أنك استعنت بالعماله في أعمال الحرث و الحصاد لتقليل الكلفه و بالتأكيد ستحتاج أن تنقلهم، ستحتاج احياناً للطاقة الكهربائيه في مشروعك و ستأخذها في الحسبان طبعاً. ستحتاج أيضاً إلى بعض الشاحنات و المراكب أحياناً لنقل منتوجك الى نقاط البيع.

تخيل أن حظك السييء أوقعك في موسم ارتفاع أسعار النفط و مشتقاته. سيزيد ذلك تكاليف ايصال منتوجك لنقاط البيع و ستضطر أن ترفع الأسعار قليلاً كي تجني هامشاً للربح. 

بضاعتك الآن في يد المورد الذي سيدفع بعض التكاليف لايصال منتوجك إلى أسواقه، بالتأكيد سيحتاج لأن يشحن منتوجك الذي امتلكه الآن في مصادر نقلٍ عابرةٍ للقارات. 

سيصل الشاي الآن الذي يملكه المورّد الى بلد المورِّد و الذي سيحاول تعويض ما خسره أيضاً برفع سعره قليلاً اذا افترضنا أن بلاده لا تملك الامكانيات التي تمكنه من استيفاء خسارته عبر اجراءات محفزه للتوريد كتسهيلات دخول البضائع 
مثلاً. 

عموماً سيصل المنتج إلى كوبك كمستهلك في النهايه بسعر مرتفعٍ عن المعتاد أحياناً نتيجةً لعوامل العرض و الطلب و كلفة النقل و التوريد على سبيل المثال، و بالتأكيد ستكتب تغريدةً تنتقد فيها شاي "عبده" المرتفع السعر رغم أنه لا ناقة له و لا جمل في هذا الارتفاع. 

لا أحاول هنا تبرير ارتفاع اسعار السلع أحياناً لأن الارتفاع في بلدنا هذا قد لا يكون مُبرَّراً دائماً فقد يكون نتيحةً للاحتكار و ما شابه. لكن لأن برميل النفط الواحد قد يُستَخرَج منه وقوداً للنقل و وقوداً لانتاج الكهرباء و مواداً أخرى تساعد على انتاج السلع فهذا يجعل النفط عاملاً مؤثراً في انتاج السلع و إيصالها اليك كمستهلك.

أتمنى أن أكون قد أجبتك جيداً يا صديقي بهذا المثال البسيط بالتأكيد العمليه أعقد من هذا السيناريو بكثير و التأثير أيضاً قد يمتد ليعلو بدولةٍ ما إلى أعلى مراحل التسليح و القوه و قد يدفع بأخرى الى أدنى مظاهر التفكك. 

أخبرتك قبلاً لست اقتصادياً لكنني أحاول تبسيط المفاهيم لك، استمتع بشرب كوب الشاي و لا تزعج "عبدُه".